كتاب الطهارة 16

الدرس في كتاب الطهارة 16، ألقاها

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. ثم أما بعد.

قالوا: المسألة السادسة، أي من مسائل الوضوء، قالوا: في نواقضه، أي في نواقض الوضوء، قالوا: والنواقض هي الأشياء التي تبطل الوضوء وتفسده، وهي ستة. أولها قالوا: الخارج من السبيلين. ومعنى الخارج من السبيلين، أي الخارج من القبل أو من الدبر. قالوا: الخارج من السبيلين، أي من مخرج البول والغائط، أي القبل أو الدبر. قالوا: الخارج، أي من السبيلين، إما أن يكون بولا أو غائطا أو منيا أو مذيا أو دم استحاضة أو ريحا، قليلا أو كثيرا، أي أن هذه الأمور من نواقض الوضوء.

من نواقض الوضوء، وبعض أهل العلم رحمهم الله تعالى يفصلون في هذا المقام، أي في الخارج من السبيلين، فيقولون بأن الخارج من السبيلين على قسمين. قسم مجمع على أنه ناقض من نواقض الوضوء، والقسم الآخر مختلف فيه. فمن المجمع فيه الأشياء المذكورة إلا الاستحاضة، ففيها خلاف. بمعنى أن الغائط والبول، وكذلك المني أو المذي، أو الريح سواء كان فساءً أو ضراطا، الكل ناقض، أو كل هذه الأشياء من نواقض الوضوء بإجماع، لا خلاف بين أهل العلم في كونها ناقضاً أو ناقضةً من نواقض الوضوء.

ودل عليها كذلك أدلة من كتاب الله جل وعلا، ودل على بعضها أدلة من سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. قالوا: لقوله تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط"، فهذا فيه دليل على أن الغائط ناقض من نواقض الوضوء. قالوا: وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، كما في حديث أبي هريرة. وقد سئل أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فقيل له: يا أبا هريرة، وما معنى أحدثا؟ أو ما معنى الحدث؟ قال: "فساء أو ضراط". قال: "فساء أو ضراط". فدل على أن الفساء والضراط داخلان في نواقض الوضوء، وأنها من الأحداث التي توجب الوضوء.

قالوا: وقد تقدم، قالوا: وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن من غائط أو بول أو نوم". وهذا الحديث هو قطعة من حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه وأرضاه، ولفظه قال: "كان يأمرنا"، أي النبي صلى الله عليه وسلم، "ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليه إلا من جنابة". قال: "لكن من غائط، ولكن من غائط أو بول أو نوم"، أي أن الإنسان إن أصابه غائط أو بول أو نوم فإنه ينتقض وضوءه، فعليه الوضوء. إذن في حديث صفوان بن عسال، وهو حديث رواه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وصححه الترمذي، وحسنه العلامة الألباني، وكذلك حسنه شيخنا العلامة الوادعي في "الصحيح المسند". ففي الحديث أن الغائط والبول والنوم من نواقض الوضوء.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا شك هل خرج منه ريح أو لا فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"، وهو حديث متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه. أي في الصلاة، إنسان إذا شك خرج منه شيء أم لا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخرج، فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً". ففيه دليل على أن الفساء والضراط كذلك من نواقض الوضوء.

وأما المني، فدل عليه قول الله جل وعلا: "وإن كنتم جنباً فاتطهروا". وأما المذي، فدل عليه ما جاء في "الصحيحين" من حديث المقداد بن الأسود، أن علي رضي الله عنه وأرضاه بعثه ليستفتي النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي. قال علي رضي الله عنه وأرضاه: "كنت رجلاً مذاءً، أي كثير المذي"، فأرسلت المقداد بن الأسود، لمكانة ابنته منه أو مني، أي لمكانة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي. قال: "لمكانة ابنته مني"، فسأله فقال له: "فليتوضأ"، أو قال: "فلينضح على ذكره وليتوضأ"، وهذا أمر. فدل على أن المذي ناقض من نواقض الوضوء.

وأما دم الاستحاضة، فاختلف العلماء رحمهم الله تعالى في كونها ناقضة من نواقض الوضوء أم لا. فجمهور أهل العلم ذهبوا إلى أن الاستحاضة ناقض من نواقض الوضوء، ومعنى الاستحاضة هو خروج الدم من فرج المرأة، وليس هو دم نفاس ولا دم حيض. ولكن كما جاء في بعض الروايات، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، أي أنه دم ليس دم حيض ولا دم نفاس، وإنما هو بسبب جرح يحصل في الرحم أو ما شابه ذلك، فيتدفق الدم بسببه من الرحم. فهل يكون هذا الدم ناقضاً من نواقض الوضوء؟ 

قلنا ذكر العلماء رحمهم الله تعالى أن أكثر أهل العلم على أنه ناقض من نواقض الوضوء. ما دليلهم على هذا؟ أنه خارج من السبيلين، هذا أولاً. ثانياً، ما جاء في "صحيح البخاري" من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها في قصة فاطمة بنت أبي حبيش، وفيه أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستحاضة وما كان يخرج منها من الدم رضي الله عنها وأرضاها. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عرق، وليست بالحيضة". وفي رواية، قال: "فتوضئي لكل صلاة". فتوضئي لكل صلاة. استدل العلماء القائلون بأن الاستحاضة واجبة بهذه اللفظة، وتوضئي لكل صلاة، بأن الاستحاضة ناقض من نواقض الوضوء.

ولكن هذه الزيادة، وإن رواها البخاري رحمه الله تعالى، إلا أن جماعة من أهل العلم حكموا عليها بأنها زيادة غير محفوظة. وإن رواها حماد بن زيد، وهو حافظ، إلا أنه كما ذكر من ذكر من الحفاظ، خالف أربعة عشر شخصاً فلم يذكروا هذه الزيادة. لذا حكم طائفة من الحفاظ على هذه الزيادة بأنها غير محفوظة. وأشار إلى ذلك الإمام مسلم رحمه الله تعالى في "صحيحه"، فذكر الحديث المتفق عليه، ثم قال: "ولحماد بن زيد هاهنا حرف لم نذكره"، أو قال: "زاد حماد بن زيد حرفاً لم نذكره"، أو كما قال رحمه الله تعالى. وكذلك تكلم عليه طائفة من أهل العلم.

فالحاصل أن الزيادة لم تصح، وذهب ربيعة شيخ مالك، ومالك بن أنس، وكذلك قبلهما من التابعين عكرمة، وأيوب، في طائفة من أهل العلم إلى أن الاستحاضة ليست ناقضة من نواقض الوضوء. واستدلوا على ذلك بأن الأصل البراءة، وكون الاستحاضة ناقض من نواقض الوضوء يحتاج إلى دليل. قالوا: "ولا دليل". وما جاء في حديث عائشة من الزيادة كما سمعتم حكموا عليها بالضعف. وجاء كذلك في رواية أخرى من حديث فاطمة بنت أبي حبيش نفسها، وكذلك حكم العلماء رحمهم الله تعالى على هذه الرواية وعلى هذا الحديث كذلك بالضعف. فقالوا: "إذاً ليس عندنا دليل واضح نحكم به على أن المرأة إذا استحاضت فإن عليها الوضوء".

الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى في كتابه "الأوسط" يقول: من حيث النظر، قول ربيعة قوي. وذلك لأن دم الاستحاضة مستمر في المرأة. دم الاستحاضة مستمر في المرأة، فإذا كان ناقضاً، نتصور الآن امرأة الدم فيها مستمراً، توضأت المرأة والدم مستمر. إذا كان ناقضاً، فمعنى ذلك أنه كلما غسلت وجهها مثلاً، ويديها، والدم يخرج، يكون انتقض. فتعيد، وينتقض، وتعيد، وينتقض. لذا اضطر بعض أهل العلم القائلين بأن الاستحاضة ناقض من نواقض الوضوء إلى القول بأنها إذا شرعت في الوضوء وخرج منها الدم، فإنه لا عبرة به. ومنهم من قال: "إن فرغت من وضوئها ثم خرج منها الدم فلا عبرة بالدم الخارج". ومنهم من نصف وذكره في هذا أقوال. 

فالحاصل أننا إذا تأملنا هذه المسألة، وتصورنا هذه المسألة، نجد أن حقيقة القول أن هذا غير متصور. لماذا؟ لأننا لو قلنا بأنه ناقض، فإذا شرعت المرأة في الوضوء، وخرج الدم، معنى هذا أنه ناقض. إذا فرغت من الوضوء ثم خرج منها الدم قبل الدخول في الصلاة، يلزم من هذا أن يكون ناقضاً. إذا دخلت في الصلاة وخرج منها الدم، يلزم من هذا أن يكون ناقضاً. واضح هذا، كالبول أو كخروج مثلاً الفساء. إنسان توضأ، وفي أثناء الوضوء خرج منه بول، أو خرج منه فساء، ماذا يصنع؟ يعيد. فإذا قيل بأن الاستحاضة كذلك، يلزم أنها تعيد. وهكذا يخرج منها وتعيد. وهذا، كما ترون، فيه حرج، فيه حرج وفيه مشقة.

فمن حيث الدليل، كما سمعتم، لم يثبت دليل يوجب على المستحاضة أن تتطهر. ومن حيث النظر، والمعنى، كذلك يدل على هذا. من حيث النظر والمعنى يدل على هذا. ما جعل الله علينا بحمد الله جل وعلا في الدين من حرج؟ فماذا تصنع؟ كقال من قال من أهل العلم: "إن توضأت خروجاً من الخلاف فالأمر مستحب، وهو أفضل، خروجا من الخلاف". وإن لم تتوضأ وصلت بوضوئها الأول، فطهارتها صحيحة، وصلاتها صحيحة، مادام أن دم الاستحاضة لم يدل دليل على أنه ناقض من نواقض الوضوء. والله تعالى أعلى وأعلم.

طيب، هذه بعض المسائل. قالوا: الثاني، طيب، قبل أن نخرج وننتقل إلى الثاني، كما سمعتم، أن بعض أهل العلم ذكر أن الخارج من السبيلين على قسمين، مجمع عليه وقد تقدم، ووقع القسم الثاني ما وقع فيه الخلاف، وذكروا من ذلك أموراً سيأتي ذكر بعضها. ولكن نتكلم على أشياء لعله لا تأتي، وهي كذلك: ما خرج من السبيلين، ما خرج من السبيلين من غير هذه الأشياء المذكورة، مثل حصى خرجت من القبل أو من الدبر، أو كما يقول بعض أهل العلم: "ديدان أو شعر أو ما شابه ذلك". هل خروج هذه الأشياء يكون ناقضاً من نواقض الوضوء؟ خلاف بين أهل العلم، وأحسن الأقوال في هذا من ذهب إلى التفصيل فقال بأن الخارج من السبيلين إن كان فيه ندوة، أي أثر غائط أو أثر بول، فإنه يكون حكمه حكم خروج الغائط والبول، أي يكون ناقضاً من نواقض الوضوء. وإن لم يكن فيه ندوة، بل خرج جافاً، ليس عليه أثر البول ولا أثر الغائط، فإنه لا يكون كذلك، لأنه ليس ببول ولا غائط.

ولعله هذا من أحسن الأقوال، والله تعالى أعلى وأعلم. طيب، قالوا: الثاني، خروج النجاسة من بقية البدن. ما معنى خروج النجاسة من بقية البدن؟ ما معنى خروج النجاسة من غير السبيلين؟ قالوا: فإن كان بولاً أو غائطاً، نقض مطلقاً، لدخوله في النصوص السابقة. كيف هذا؟ يعني يقولون خروج النجاسة من بقية البدن، فإن كان بولاً أو غائطاً. كيف يكون بولاً أو غائطاً ويخرج من غير السبيلين؟ طيب، نتصور هذا في من كان به مرض، عمل له عملية مثلاً، فاحتاج إلى إخراج الغائط أو البول من جوفه من غير المخرج. فما حكمه؟ كذلك خلاف بين أهل العلم، والصحيح من أقوال أهل العلم بأنه ناقض من نواقض الوضوء، والدليل على هذا ما تقدم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولكن من غائط أو بول"، ولكن من غائط أو بول. فخروج الغائط أو البول سواء كان من المخرج المعتاد أم لم يكن من المخرج المعتاد، فإنه يوجب الوضوء، لأن الشارع علق الحكم بها. علق الحكم بخروج البول، وكذلك ماذا؟ علق الحكم بالغائط والبول، ولم يعلق الحكم بماذا؟ بالمخرج. واضح هذا؟ جماعة أم لا؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكن من بول أو غائط". فإذا خرج البول أو الغائط من مخرجهما، الأمر واضح. إذا خرج من غير مخرجهما، كذلك يكونان ناقضين من نواقض الوضوء على القول الصحيح من أقوال أهل العلم، لعموم دخولهم في عمومات الأدلة.

قالوا: وإن كان غيرهما، أي وإن كان غير الغائط والبول من النجاسات. قالوا: وإن كان غيرهما، يعني الدم، مثلاً نزيف حصل لإنسان، رعاف حصل لإنسان، خرج منه دم من أنفه، خرج له دم من أذنيه، خرج له دم، مثلاً أصيب بجرح في صدره، في بطنه، طعن أو ما شابه ذلك، هل يكون هذا ناقضاً من نواقض الوضوء؟ كذلك القيء. القيء هو خروج الطعام أو الشراب من جوف الإنسان، من بطن الإنسان. فهل يكون ناقضاً من نواقض الوضوء؟

قالوا: هاهنا، فإن فحش وكثرا، فالأولى أن يتوضأ منه عملاً بالأحوط. وإن كان يسيراً، فلا يتوضأ منه بالارتفاق. أي إن كان يسيراً من دم أو قيء، فإنه لا يتوضأ. واليسير، كما يقول بعضهم، ما لم يملأ الفم. ما لم يملأ الفم. بعضهم ضبطه بهذا، وهو قول الحنفية، والصحيح، كما ذكر، وهو الصحيح بأن خروج الدم، وكذلك القيء، ليسا بناقضين من نواقض الوضوء، لعدم الدليل الدال على أنهما ناقضان. نعم، جاءت أحاديث في ذلك، ولكنها لا تصح. جاء عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصابه قيء أو رعاف أو قرس أو مذي، فليتوضأ"، ولكن الحديث لا يصح. ضعفه جماعة من الحفاظ. فإذا كان كذلك، فالأصل البقاء على الأصل، أنها ليست بناقضة من نواقض الوضوء، حتى يدل الدليل على ذلك، ولا دليل على أن خروج الدم من نواقض الوضوء.

بل هناك أدلة قد يستفاد منها أن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ربما خرج من أحدهم الدم ولم يعتبروا، كما حصل في قصة عمر رضي الله عنه وأرضاه، حينما طعنه المجوسي الخبيث، فقام فصلّى الفجر رضي الله عنه وأرضاه، ودمه يخرج منه. فالحاصل أن خروج الدم والقيء ليسا بناقضين. وقوله: "خروج النجاسة من بقية البدن"، الأولى أن يقال: "خروج شيء من داخل البدن"، لأن القيء ليس بنجس، وكذلك الدم، إن لم يكن مسفوحاً، أيضاً ليس نجساً بالإجماع. وإن كان مسفوحاً، فعلى القول الذي عليه طائفة من المحققين أنه ليس بنجس أيضاً. فالأولى بالتعبير أن يقال: "خروج شيء من بقية البدن"، ليدخل الشيء النجس وغيره.

طيب، قالوا، كيف؟ انتهى الوقت؟ انتهى؟ يعني طيب. سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك. لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك.

  • 16 جمادى الآخرة 1433هـ - 07/05/2012مـ
  • 5.34MB
  • 23:20

شاركنا على