كتاب الطهارة 17

الدرس في كتاب الطهارة 17، ألقاها

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

ثم أما بعد، توقفنا في الدرس الماضي في الكلام على المسألة السادسة في نواقض الوضوء، وتوقفنا عند الأمر الثالث، وهو زوال العقل. أي من نواقض الوضوء زوال العقل أو تغطيته بإغماء أو نوم. زوال العقل، كما ذكر، أو تغطيته. زواله بإغماء أو تغطيته بنوم، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن من غائط وبول ونوم". أي كما تقدم معنا في حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه وأرضاه، فقوله "ونوم" دليل على أن النوم ناقض من نواقض الوضوء. قالوا، وقوله "العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ". قالوا في الحاشية: "السه الدبر، والمعنى أن العينين في يقظتهما بمنزلة الحبل الذي يربط به، فزوال اليقظة كزوال هذا الرباط". يعني العين وكاء السه، المقصود به الوكاء الذي يربط به الوكاء، فإذا نامت العينان سُطِق الوكاء. جاء في الحديث: "فإذا نامت العينان سُطِق الوكاء". والحديث ذكره هنا أن العلامة الألباني رحمه الله تعالى حسنه، والحكم فيه مختلف بين أهل العلم. فمنهم من يحسن هذا الحديث، ومن أهل العلم من يضعفه، والثاني أقرب، والله تعالى أعلى وأعلم. قالوا: أما الجنون والإغماء والسكر ونحوه، فينقض إجماعًا. والجنون والإغماء، نقل غير واحد الإجماع على أنهما ناقضان من نواقض الوضوء. والسكر يُلحَق به إذا كان سكرًا بحيث يغيب معه العقل. وكل ما غاب به العقل فصار الإنسان لا يميز ولا يعقل ما يخرج منه ولا ما يفعل، فهذا كذلك يُلحَق بالإغماء ويلحق كذلك بالجنون. قالوا: والنوم الناقض، أي وضابط النوم الناقض هو المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك على أي هيئة كان النوم. أما النوم اليسير فإنه لا ينقض الوضوء، لأن الصحابة رضي الله عنهم كان يصيبهم النعاس وهم في انتظار الصلاة، ويقومون يصلون ولا يتوضؤون. كما جاء في الصحيحين، من حديث أنس. وهنا ذُكر أنه في صحيح مسلم، أي جاء عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون الصلاة حتى تخفق رؤوسهم من النوم. وفي بعض الروايات: فينامون، وفي بعض الروايات: يغطون، ثم يُوقظون فيصلون. مع ما تقدم معنا من حديث لقيط بن صابرة، في قوله: "إلا من غائط أو بول أو نوم". فقال العلماء رحمهم الله تعالى الجمع بين الحديثين. في حديث لقيط بن صابرة ظاهره أن النوم مطلقًا ناقض من نواقض الوضوء، وظاهر حديث أنس أن النوم ليس بناقض من نواقض الوضوء. لذا اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في المسألة على ثمانية أقوال، وأرجحها وأقربها ما ذُكر هنا، وهو أن المعتبر في هذا من النوم هو النوم المستغرق بحيث أن النائم لا يشعر بمن حوله. يعني قد يقول قائل: ما هو ضابط النوم المستغرق؟ الجواب: أنه النوم الذي لا يشعر الإنسان بمن حوله، بل يكون كما يقال في عالم آخر. هذا هو النوم المستغرق. فمن حصل منه ذلك وجب عليه الوضوء، لحديث لقيط بن صبرة. ومن دخل في النوم ولكنه لم يكن مستغرقًا، يشعر بمن حوله، كما يحصل من كثير من الناس في أحوال كثيرة، يكون شبه نائم، يعني نائم ولكنه يسمع الأصوات ويدرك ما يدور حوله، فمثل هذا لا يجب عليه الوضوء. وعليه يتنزل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه في حكاية أن الصحابة كانوا ينامون ثم يُوقَظون إلى الصلاة فيصلون ولا يتوضؤون. وهذا من أحسن الجمع بين هذه الأحاديث، وهو الذي اختاره جماعة من المحققين، جمعًا بين الأدلة.

طيب، وكما ذُكر، لا يلزم أن يكون النوم قاعدًا أو مضطجعًا أو على أي هيئة. العبرة في النوم المستغرق هو الذي يوجب الوضوء، وأما غير المستغرق فإنه لا يوجب الوضوء. هذا هو الأظهر من أقوال أهل العلم، والله تعالى أعلى وأعلم.

قالوا: الرابع، مس فرج الآدمي بلا حائل. وقولهم "مس فرج الآدمي"، الفرج يُطلق على القبل، أي سواء كان في الذكر أو الأنثى. أما الدبر فلا يُقال فيه "فرج"، ومن هنا ذكروا مسألة: هل يلحق من مس حلقة الدبر بمس الفرج أم لا؟ قولان لأهل العلم، والأظهر والله أعلى وأعلم أنه لا يلحق به لأنه ليس بفرج، وليس ثمة دليل يدل على الإلحاق. لكن لا شك ولا ريب أن من توضأ خروجًا من الخلاف وأخذًا بالأحوط فهو أجود وأحسن وأفضل، والله أعلى وأعلم.

قولهم "الآدم" خرج الحيوان، أي غير الآدمي، فمسها، يعني فرج حيوان، فلا يدخل في هذا الحكم. وقولهم "بلا حائل" معناه أن المس لا بد أن يكون مباشرة للفرج، فإن كان هناك حائل بينه وبين المس، مثل ثوب أو سروال أو ما شابه ذلك، فإنه لا يدخل في هذا الحكم.

إذن نستفيد من هذا أن مس الفرج الذي يُوجب الوضوء، على قول وسيئة الكلام عليه، هو المس مباشرة للفرج. وقولهم "مس فرج الآدمي بلا حائل" فيه كذلك معنى من معاني إطلاق الحكم. ما هو؟ هل يجب أو هل المس الذي يُوجب الوضوء ويكون ناقضًا من نواقض الوضوء هو مس الإنسان فرجه أو مس فرجًا؟ سواء كان فرجه أو فرج غيره. يعني مثلًا، وهذا يُسأل عليه بكثرة، حال الأمهات مع أبنائهم الأطفال، يغسلون الأطفال، فيغسلون ماذا؟ يغسلون فرج الأطفال. فهل يكون ناقضًا من نواقض الوضوء أم لا؟ المسألة كذلك، هذه المسألة فيها خلاف كذلك بين أهل العلم في: هل من مس فرج غيره من الآدميين فإنه ينتقض وضوءه أم لا؟ فيه خلاف بين أهل العلم، وكذلك الأكمل والأسلم والأحوط أن يتوضأ، الأسلم أن يتوضأ كذلك خروجًا من الخلاف.

طيب، هذا طبعًا كله بناءً على المسألة أن مس الفرج ناقض من نواقض الوضوء. وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم: هل مس الفرج، من مس فرجه، هل ينتقض وضوءه أم لا؟ قالوا هنا، قالوا: "مس فرج الآدمي بلا حائل"، أي أنه ناقض من نواقض الوضوء. قالوا، لحديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس فرجه فليتوضأ". وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث صحيح كما ذكر في الحاشية، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي، وغيرهم. وصححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى، وغيرهم كذلك من أهل العلم. فقول النبي صلى الله عليه وسلم "فليتوضأ" استُدل به على وجوب الوضوء من مس الفرج. وفي حديث أبي أيوب وأم حبيبة قالوا: "من مس فرجه فليتوضأ"، "من مس فرجه فليتوضأ". وهذا الحديث كما ذكر في الحاشية أن الشيخ الألباني رحمه الله تعالى صححه من حديث أم حبيبة، وأما حديث أبي أيوب، فقال الألباني رحمه الله تعالى إنه لم يقف عليه. وكذلك حديث أم حبيبة فيه نزاع في ثبوته وعدمه.

فالشاهد من هذا أن هذه الأحاديث تدل على وجوب الوضوء من مس الإنسان فرجه. وجاء في بعض طرق حديث بصرة: "من مس فرجًا" أي "فرجًا" على الإطلاق، وليس "فرجه". "فرجًا" وليس "فرجه"، فاستُدل به على المسألة السابقة من أنه من مس فرج غيره أنه ينتقض وضوءه.

بقي أن نقول: هل القول الراجح أن من مس ذكره أو مس فرجه أنه يتوضأ أم لا؟ كما سمعتم، هذه الأحاديث ظاهرها أن من مس ذكره فليتوضأ، ولكن في المقابل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث طلق بن علي رضي الله عنه وأرضاه، عند أصحاب السنن، قال: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يمس ذكره في الصلاة، أعليه وضوء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو بضعة منك"، قال: "لا، إنما هو بضعة منك". فمن استدل من أهل العلم على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "فليتوضأ" يحمل على الاستحباب والفضل، لا على الوجوب، جمعًا بين الحديثين. وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وقد قال به طائفة من السلف من الصحابة والتابعين، رحمهم الله تعالى. وهذا هو الأقرب، ولا سيما مع ثبوت حديث طلق. لكن لا شك ولا ريب أن الأكمل والأحوط للإنسان أن يأخذ بما فيه وقاية وفيه كذلك حيطة لدينه، فيتوضأ. وكما سمعتم، الوضوء أقل أحواله أن يكون مستحبًا، وإلا على قول جماعة من السلف نقل عن عمر بن الخطاب وابنه، وطائفة من كبار الصحابة أنهم يقولون بأنه ناقض من نواقض الوضوء. فإذا الأحرى للإنسان والأحوط للإنسان أن يتوضأ من مس فرجه أو مس فرج غيره، والله أعلى وأعلم.

طيب، قالوا: الخامس: أكل لحم الإبل. وقولهم "أكل لحم الإبل"، فيه إشارة إلى أن الناقض في الوضوء هو الأكل. أكل اللحم، أما من لم يأكل اللحم، مس اللحم، قطع اللحم، لحم الجزور، هل يكون ناقضًا من نواقض الوضوء؟ الجواب: لا. طيب، من شرب لبن الإبل، هل يكون ناقضًا من نواقض الوضوء؟ كذلك لا، ليس بناقض من نواقض الوضوء. وهذا قول أكثر أهل العلم، بل بعضهم قال إنه قول عامة أهل العلم، وما خالف فيه إلا أحمد في رواية، والصواب أنه ليس بناقض من نواقض الوضوء. ليس بناقض من نواقض الوضوء. يدل على هذا، قالوا، لحديث جابر بن سمرة، أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتوضأ من لحوم الغنم؟"، قال: "إن شئت توضأ وإن شئت لا تتوضأ". وهذا يدل على أن لحوم الغنم، أكل لحوم الغنم، ليس بناقض من نواقض الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معاد الأمر: "إن شئت توضأ وإن شئت ما تتوضأ، لا تتوضأ". قال: "أنا توضأ من لحوم الإبل، أنا توضأ من لحوم الإبل". قال: "نعم، توضأ من لحوم الإبل، توضأ من لحوم الإبل". وقد جاء كذلك في حديث جابر، جاء في حديث جابر خارج الصحيح، في سنن أبي داود وغيره. جاء أيضًا نحو هذا المعنى: "فيه، من أكل من لحم الإبل، فليتوضأ، فليتوضأ". وهذا يدل على ما تقدم ذكره من أن المعتبر في هذا هو أكل لحم الإبل، أكل لحم الإبل، سواء كان نيئًا أو مطبوخًا. العبرة بماذا؟ بالأكل.

طيب، السادس: الردة عن الإسلام. قالوا: السادس: "الردة عن الإسلام"، لقوله تعالى: "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله". قالوا: طيب، الردة عن الإسلام، لقوله تعالى: "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله". ومسألة الردة كذلك عن الإسلام وقع الخلاف بين أهل العلم. أي صورة المسألة: إنسان توضأ، ثم ارتد عن دين الإسلام، ثم تاب في نفس الوقت، مثلًا، والعياذ بالله، فعل شيئًا من المكفرات، مثلًا سب الدين، أو ما شابه ذلك، ارتد، استعاذ بالله، وتاب، ودخل الإسلام، وقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وتاب إلى الله، وصدق في هذه التوبة، هل وضوءه الذي توضأه قبل الردة ينتقض، فيجب عليه أن يتوضأ مرة أخرى أم لا؟ خلاف بين أهل العلم. ومرد المسألة إلى مسألة الكافر إذا أسلم، هل يجب عليه الغسل أم لا؟ فمن قال إنه يجب عليه الغسل بإسلامه، قالوا فيه دلالة على أنه يجب عليه الوضوء، وأنه انتقض، وأنه انتقض وضوءه بذلك. ومن أهل العلم من قال إنه لا يكون كذلك، وإنما المراد بحبوط الأعمال ثواب الأعمال، حبوط ثواب الأعمال، لا صحتها. بمعنى أن من حصل منه ثم رجع، يحبط عمله إن مات على ذلك. أما إذا لم يمت، يعني تاب، ارتد ثم تاب مباشرة، هل يحبط عمله؟ الجواب: لا. واستدلوا على ذلك بأن الإنسان إذا حج حجة الإسلام، ثم حصل منه ردة، ثم تاب، هل تسقط عنه الحجة الأولى أم أنها لا تسقط؟ الذي عليه جماعة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وغيرهم، أنها لا تسقط. قال: "وكذلك الوضوء". قال: "وكذلك الوضوء"، والله تعالى أعلى وأعلم.

طيب، إلى هنا.

سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

  • 16 جمادى الآخرة 1433هـ - 07/05/2012مـ
  • 4.75MB
  • 20:44

شاركنا على