كتاب الطهارة 27

الدرس في كتاب الطهارة 27، ألقاها

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ثم أما بعد، دخلنا في الدرس الماضي في الباب التاسع، وهو في النجاسات وكيفية تطهيرها. طيب، قالوا وهي على ثلاثة أقسام: نجاسة مغلظة، وهي نجاسة الكلب وما تولد منه. وقد تقدم معنا في الدرس الماضي أن الصحيحة من أقوال أهل العلم أن لعاب الكلب وريقه نجس، بخلاف ما تولد منه. القسم الثاني، نجاسة مخففة، وهي نجاسة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام. وتقدم كذلك أن قول الأكثرين أنه نجس، بل حكي فيه الاتفاق على أنه نجس، ولكن خففت طريقة تطهيره كما سيأتي معنا بإذن الله جل وعلا في المسألة الثانية في درسنا هذا، إن شاء الله تعالى.

القسم الثالث، قالوا نجاسة متوسطة، أي ليست بالمغلظة ولا بالمخففة. وهي بقية النجاسات كالبول والغائط والميتة. فهي نجسة لأجل هذه المعاني، ونجاستها متوسطة. الكلب كانت نجاسة لعابه مغلظة، لأن الشرع أمر بغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. فلذا كانت نجاسة ريق أو لسان الكلب مغلظة، لذا كان الحكم فيها أو الحكم في تطهيرها كذلك مغلظا.

طيب، المسألة الثانية، الأشياء التي قامت عليها أدلة على نجاستها. واحد، بول الآدمي وعذرته وقيئه. بالنسبة لبول الآدمي وعذرته، أي غائط الآدمي، فهما نجسان بإجماع، لا خلاف بين أهل العلم في نجاسة بول الآدمي وغائطه. ومن الأدلة، ما جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، في قصة ذاك الأعرابي الذي بال في المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر بذنوب ماء فأهريق عليه. الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب ماء فأهريق عليه، وفيه دلالة على أنه نجس. وأما عذرة الإنسان أو غائط الإنسان، فيستدل عليه بما جاء في سنن أبي داود وغيره في حديث أبي سعيد الخدري، قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فلينظر إلى نعليه، فإن وجد فيهما قذراً فليمسحهما بالتراب." وهو كما سمعتم هذا الحكم مجمع عليه بين العلماء.

أما قيء الإنسان، فهل هو نجس أم لا؟ لا دليل على نجاسته. لا دليل على نجاسة قيء الإنسان، بل الصحيح أنه طاهر، لأصل الحل ولأصل الطهارة. لأن القاعدة عندنا أن الأصل في الأشياء الطهارة، وأن النجاسة تخرج عن هذا الأصل بدليل. ولا دليل على نجاسة قيء الإنسان، ولا يقاس قيءه، أي ما خرج من فم الإنسان، بما خرج من دبره، فهذا قياس مع الفارق ومع البعد.

فإذاً الصحيح أن القيء ليس بنجس، قالوا إلا بول الصبي، أي إلا بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، فيكتفى برشه. وصراحة، أن هذا الاستثناء هاهنا كما يقال لا محل له، لأن الكلام هنا على الأشياء التي قامت عليها أدلة على نجاستها. وقد تقدم معنا أن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، أن بوله نجس، ولكن نجاسته مخففة. فقولهم بول الآدم وعذرته وقيئه، إلا بول الصبي الذي لم يأكل الطعام فيكتفى برشه، فالاستثناء هاهنا، يعني أنه الأولى أن لا يؤتى به لأنه سيأتي في المسألة الثالثة، في كيفية تطهير النجاسة، في كيفية تطهير النجاسة يفرق بين بول الجارية وبين بول الغلام اللذين لم يطعما، وبين بول الصغير والكبير.

أما هاهنا، فالكلام على النجاسة، فكان ينبغي أن يقال بول الآدم وعذرته وقيئه، وكذا بول الصبي، إلا أن نجاسته أخف، أي أنه نجس، ولكن نجاسته مخففة. فالحاصل أن قولهم إلا بول الصبي الذي لم يأكل طعاماً فيكتفى برشه، الأولى كان أن لا يذكر مثل هذا الاستثناء في هذا الموطن. وكان الأليق أن يقال بول الآدم وعذرته نجس، أي من النجاسات، وبول الغلام نجس، ولكن خففت نجاسته، أو نجاسته مخففة. واضح، جماعة؟

طيب، قالوا إلا بول الصبي الذي لم يأكل طعاماً فيكتفى برشه، لحديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل طعاماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم، الصبي الذي لم يأكل الطعام، بال في حجره، فدعا بماء فنضحه. والنضح أشبه ما يكون بالرش، برش الماء على مكان البول. ففيه دلالة على أن البول نجس، ولكن النجاسة خفيفة، فلذا اكتفي فيه بالنضح والرش.

قالوا أما بول الغلام الذي يأكل الطعام وكذا بول الجارية فإنه يغسل كبول الكبير، أي أن الغلام إذا أكل الطعام وكذا الجارية، فإنهم يعاملون في الغسل معاملة الكبير، بأن الكل يشملهم اسم النجاسة ووصف النجاسة.

الثاني، الدم المسفوح من الحيوان المأكول. وهنا لو عبروا وقالوا: الدم المسفوح من الحيوان المأكول، طيب. أيضاً لو عبروا هنا وقالوا: الدم المسفوح من الحيوان المأكول وغيره، ليدخل كل دم مسفوح. لأن الدم المسفوح ليس خاصاً، أي الدم المسفوح الذي جاء النهي عنه في قول الله جل وعلا: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحماً خنزيراً فإنه رجس." فالدم المسفوح جاء مطلقاً، أو دماً مسفوحاً، فيدخل فيه كل دم مسفوح، سواء كان ذلك الدم دم مأكول أو غير مأكول.

إلا أن يقال إنه ذكر هنا الدم المسفوح من الحيوان المأكول وغير المأكول من باب أولى. فيقال هذا تحميل أو تخريج حسن، ولكن أولى في باب الضوابط والتعاريف والتقسيمات التوضيح. لذا لو قيل الدم المسفوح من الحيوان المأكول وغيره لكان أحسن وأقوم. والله أعلى وأعلم.

قالوا أما الدم المسفوح من الحيوان المأكول، أما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق فإنه طاهر، لقوله تعالى: "أو دماً مسفوحاً." وهو الذي يهراق وينصب. الدم المسفوح، كما ذكر العلماء رحمهم الله تعالى، هو الجاري. الدم المسفوح هو الجاري الذي يجري من الحيوان، أي يتدفق من الحيوان. فهو الدم المسفوح.

والعلماء رحمهم الله تعالى يستثنون من هذا الدم ما إذا وقعت القطرة أو القطرتين. فإنها لا تعامل معاملة الدم المسفوح، بل لا يجب غسلها عند القائلين بأنه نجس. فإذاً الدم المسفوح هو الدم الجاري المتدفق الذي يخرج من الدابة.

بقي، ما حكم هذا الدم؟ ما حكم هذا الدم؟ هل هو نجس أم لا؟ هناك خلاف بين العلماء. أكثر أهل العلم على أن الدم المسفوح نجس، بل حكى غير واحد من الأئمة رحمهم الله تعالى الإجماع على نجاسة الدم المسفوح. واستدلوا بالآية المذكورة: "أو دماً مسفوحاً أو لحماً خنزيراً فإنه رجس." فقالوا إن قول الله جل وعلا: "فإنه رجس"، أي نجس. وقالوا إن الضمير عائد إلى المذكورات الثلاث: الميتة، والدم المسفوح، وكذلك الخنزير.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدم المسفوح، ولا سيما إذا كان من الحيوان المأكول، بأنه طاهر. بل عمموا الحكم، فقالوا بأن الدم المسفوح طاهر. ما الدليل؟ قالوا الأصل ما هو؟ الأصل أن الأشياء طاهرة حتى يدل دليل على نجاستها. وقالوا أما الآية المذكورة فإنها لا تدل على نجاسة الدم المسفوح، وإنما تدل على نجاسة الخنزير فحسب. لذلك، فإن الله جل وعلا قال في الآية: "قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحماً خنزيراً فإنه رجس." قالوا الله جل وعلا، استخدم ضمير الإفراد: "فإنه"، ولم يقل: "فإنها"، أي ضمير الجمع، فدل على أن المقصود هو الشيء من هذه الأشياء الثلاثة. والقاعدة عند أهل اللغة أن الضمير إذا احتمل أن يرجع إلى أشياء متعددة قبله، فإنه يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الخنزير.

هذا القول، كما سمعتم، ذهب إليه جماعة من أهل العلم، من المحققين منهم العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى، ومن المعاصرين العلامة الألباني، والعلامة شيخنا مقبل بن هادي الوادعي. والله أعلى وأعلم.

طيب، ذكر هنا مسألة وهي مستثنى من الدم المسفوح. قالوا أما الدم الذي يبقى في اللحم والعروق، الدم الذي يبقى في اللحم والعروق، أي إذا ذبح الإنسان ذبيحة، ذبح شاة، أو ذبح ماعز، أو نحر إيبلا، أو بقرة. الدم المسفوح عند هؤلاء نجس، أما الدم الذي بقي في العروق وفي اللحم، ما حكمه؟ هل يكون نجساً؟ الجواب أنه لا يكون نجساً، لأن مثل هذا يعفى عنه. قالوا لأن مثل هذا يعفى عنه، فلا يكون نجساً، فلا يكون نجساً. إذن قالوا إنه طاهر. قالوا لقوله تعالى: "أو دماً مسفوحاً." قال وهو الذي يهراق وينصب، أي هذا هو الدم المسفوح، وما سواه فليس بمسفوح.

طيب، القسم الثالث، قالوا بول وروث كل حيوان، بول وروث كل حيوان غير ما يؤكل لحمه، كالهرة والفأر. بمعنى أن بول وروث ما لا يؤكل لحمه فإنه نجس، وبول وروث ما يؤكل لحمه فإنه طاهر. الدليل على هذا التفريق. الدليل على هذا التفريق، أما بالنسبة للأبوال، أي أبوال ما يؤكل لحمه، فاستدلوا بما جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، في قصة العرنيين، حينما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا من أبوال النوق، أي الإبل، ففيه دلالة على ماذا؟ على أن بول الإبل طاهر. والإبل من مأكول اللحم. واستدلوا كذلك بما ثبت في الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم، أي في أماكن الغنم، ما نسميه اليوم بزريبة الأغنام، ومعلوم أن الزريبة يوجد فيها البعر، أي بعر الغنم، وبول الغنم، وما شابه ذلك. فكون النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها فيه دلالة على أنها طاهرة وليست بنجسة. هذا بالنسبة لما يؤكل لحمه.

وأما ما ليس بمأكول اللحم، فاستدلوا بأدلة، بعضها من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري، حينما أمر ابن مسعود بأن يأتيهم بثلاثة أحجار، فأتى ابن مسعود بحجرين و"روثة"، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحجرين وألقى الروثة وقال إنها "ركس." فقالوا إن الركس يعني النجاسة. ومع ذلك، يقولون إن في هذا الدليل أيضاً دلالات. إذن، الحديث إذا طُرِح، ولم يُقنع، كان معتبراً فلا يستدل به في موطن النزاع.

أما الميتة، فهي من النجاسات. الضابط في الميتة، قالوا إنها ما مات حتف أنفه من غير ذكاء شرعية. وأما ميتة السمك والجراد، وما لا نفس له سائلة، فهي طاهرة.

الخامس، المذي، وهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع، لا بشهوة ولا دفق ولا يعقبه فتور. وربما لا يحس بخروجه. قالوا إنه نجس لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "توضأ واغسل ذكرك." أي في الحديث الذي جاء في الصحيحين عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: "كنت رجلًا مذاءً، فكرهت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كانت ابنته عنده، لأنه كان زوج فاطمة، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرهم فليغسل ذكره وليتوضأ." واستدل الفقهاء على أن المذي نجس، وقد نقل طائفة من أهل العلم الإجماع على نجاسة المذي.

إلا أن هناك من يعارضون، ويقولون إنه نجس. وفي المسألة خلاف. يقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى إن المذي قد يكون طاهر، لكن الصواب أن المذي نجس لحديث علي رضي الله عنه. والله أعلى وأعلم.

قالوا عن المذي: "توضأ واغسل ذكرك." وفيه دلالة على أنه نجس، لأن الشريعة جاءت برفع الحرج، والقواعد الفقهية عند العلماء تقول: "المشقة تجلب التيسير." طيب. نكتفي بهذا.

سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك. شكراً.

 

 

 

 

شاركنا على